الأب الياس مرقس: "أراد أن يكون مشروع قدّيس فكان إنساناً ممحوّاً في حضرة الله"

كتب المقال الأمانة العامة لحركة الشبيبة الأرثوذكسية

أكثر الذين حملهم في صلاته عقوداً واكبوا اليوم عبوره عتبة الملكوت، وأوفوه ما أمكنهم من صلاة لراحة نفسه. ولأنّه الأب الياس، الأب والراهب والمرشد، الأبُ المُشعّ بفضائل الاله، حضرت إنطاكية لتشهد وصاله بالربّ.

حضرت أساقفةً وكهنةً وشمامسةً ورهباناً وراهبات، وحضرت شيوخاً وشباباً مُعمّدين بيسوع المسيح مُكلّلين بنهضة كنيسته.

DafnAbounaElias_12DafnAbounaElias_11

حضروا جميعهم علّهم يحظون بشفاعته لهم لدى الربّ. علّ إنطاكية تبقى في عُهدة كبارها ولا تفتقد وجوههم وأصواتهم، أكانوا ممدّدين في رحاب الكنيسة المُنتصرة أو شاهدين في ساحات تلك المُجاهِدة. علّ الحنين الى جمالهم يُعيدهـا إلى حيث يُريدها يسوع. علّها تراهم وتسمعهم في كلّ وجه وصوت فيها. علّ الله يعوّض على كنيسة القديّسين بقامات وقامات من القداسة. فالمسيح قام ، المسيح قام وبقيامته استحلنا شعباً لا يموت.

DafnAbounaEliasDafnAbounaElias_8

“أراد أن يكون مشروع قدّيس فكان إنساناً ممحوّاً في حضرة الله” قال رئيس خدمة الصلاة لراحة نفسه ورفيق جهاده المطران جورج خضر، وأزفّ إلى المُصلّين، وهم يشخصون الى النعش مزود القداسة، “إن رئيس هذا البيت – الدير سيُعفى من المحاكمة أمام الربّ لأنّه أراد أن يكون حبيب الله”. وكان، قبل تلاوة الرسالة والانجيل المقدّس، أن صدحت أصوات المُصليّن بترانيم الفصح تأكيداُ على كوننا أبناء القيامـة والفرح بها أبداً.

DafnAbounaElias_2DafnAbounaElias_3

عاون سيادة المطران جورج في الصلاة أصحاب السيادة المطارنة الياس عودة، أفرام كرياكوس، الياس كفوري، بولس يازجي وغطّاس هزيم، وشارك رؤساء الأديار الآباء جوزف عبدالله، يوحنا التلّي، توما بيطار، وبندلايمون فرح، والأم مريم والأم ماكرينا وعشرات الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات من مُعظم أبرشيات الكرسيّ الأنطاكي وأدياره إضافة الى رهبان الدير.

DafnAbounaElias_4DafnAbounaElias_5

ومن هذه الأبرشيات شارك أيضاً حشدٌ من المؤمنين ومسؤوليّ حركة الشبيبة الأرثوذكسية وأعضائها منهم أمينها العام رينه انطون والأمناء العامّين السابقين ريمون رزق، شفيق حيدر وطوني خوري، ورئيس مركز جبل لبنان فادي نصر.

 

كلمة المطران جورج  خضر :

“حيّ هو الله الذي آنا واقف أمامه”.

عندما كان شفيع أخينا الأرشمندريت الياس النبي ايليا يقاوم الدنيا في سبيل الله. الدنيا آنذاك ألحدت وعبدت الأصنام. وقف هذا النبي الفقير الجائع أمام ملك بلاده وملكتها ليقول للكون: “حي هو الله”. ليس احد قبل الله، ليس من ملوك وعظماء. هناك كائن واحد هو الله وانا عبده ورسوله الى هذه الأمة التي كلفني بها بالنبوّة. الشاب الياس مرقس الذي عاش في لاذقية العرب رأى ان الوهن قد أصاب شعبنا هذا المدعو ان يكون مستقيم الرأي والتمجيد، فكتب لصديق له قائلا: نحن مدعوون ان نقوّم هذا الشعب الذي يحسب نفسه قويم. إذًا منذ مطلع تحسسه الروحي كان يناضل في سبيل المسيح بلا تكليف منظور، بلا ثوب، لأنه لم يستطع ان يطيق هذه الأمة المقدسة تتدهور في خطاياها وجهلها. كتب الى صديقه الذي كان في المَصيف: نحن نريد ان نقوّم الأمة الأرثوذكسية بإنجيل يسوع المسيح بحبّه وطاعته لأننا نريد شعبنا كنيسة. نريد الأمّة متلألئة بالروح، ملتهبة بالحب الالهي، عاشقة لهذا الذي أعلن عشقه لها، الذي سُمّر على الخشبة.

الياس مرقس فهم شيئين في هذا الموقف المُعَبَّر عنه في هذه الرسالة. فهم انه مدعوّ ان يجمّل نفسه بالفضائل، وان كلّ واحد من إخوتنا مدعو الى هذا، لأننا في الماضي كنا نتذمر وكنا ننم وننتقد الرئاسات الروحية ونظنُّ اننا بهذه الثرثرة سوف ننهض بشعبنا، الى ان وعى هذا الشاب ان القضية هي ان تميت شهواتك ليحق لك ان تتكلم وأن توجَد. لم يكتفِ بتنقية ذاته، هذا وحده انغلاق. يجب تطهير الآخرين بحب يسوع. امتدّ اذًا الى الآخرين ليتمكن من الوصول الى الرب. بعد هذا رأى ان عندنا نموذجًا للتنقية وهو الرهبانية، ليست انها الوسيلة الوحيدة للتطهر ولكنها وسيلة اعتبرتها كنيستنا نموذجية. فجاء الى هذا المكان. ومهّد لمجيء بعض من رفقائه من سوريا ولبنان. فبيّن ان الشركة الرهبانية ليست وحدها النموذج ولكن الانسان الفرد الذي صادق المسيح هو النموذج. قرأ، وأرجو ان نصبح جميعا قرّاء للكلمة الإلهية، لأن كنيستنا كنيسة الكلمة التي تنزل عليك من الله
أقنومًا ثانيًا من الثالوث القدوس. “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وإلهًا كان الكلمة”.

يتبادر الى ذهني عندما تنشأ مؤسسة انها بحاجة الى تنظيم، الى زراعة، الى اقتصاد، الى كتابة. ولكن المسجّى أمامنا في حضرة ربّه فهم ان ليس من مؤسسة، هناك أشخاص، محبّون لله، راغبون في التطهر، مناضلون فيما هم يصعدون على سلّم الفضائل. لأنك إن رأيت ان الله هو كل شيء، كما رأى ايليا النبي، تطمح ان تصيـر مثل الله. نحن لا نكتفي ان نكون بشر أوادم. نحن نريد ان نكون آلهة. هذا في كتب آبائنا. أراد هذا الإنسان الذي أوغل في التواضع، ان يكون حبيب الله، شاهدًا لكلمته، مُمدًا إخوته بها، غير معتدّ بفضيلة عنده، منسحقًا حتى النهاية لأن التواضع هو ان تصير إنسانًا ممحوًا في حضرة الله. لأن من ظن نفسه شيئًا، على قول الرسول، ليس بشيء. الياس مرقس ظن نفسه لا شيء ولذلك استطاع، على الصعوبات الجمة، ان يجمع هذا القطيع الصغير في هذا المكان العالي. استطاع بنعمة الله، مستورًا بتواضعه، لا يقرأ تواضعه، يقرأه الناس، قرأناه نحن. ولذلك أراد أن يكون مشروع قديس. هذا الشيء الوحيد الذي يستحق أن نجاهد في سبيله.

ولم يحل هذا دون فرحه الدائم. كان يحس بأن المسيحية فرح. ولكن الفرح يقتضي جهادًا مريرًا. لا تستطيع ان تتصاعد الى الحضرة الإلهية ما لم تتيقن انك لا شيء. هذّبَ مَن هذّبْ. ألحّ عليهم ان ليس من مشاركة بينهم الا الرب يسوع. وبقي يصارع حتى النهاية على روح مداعبة. ولكن دائمًا بلا دينونة على أحد… انك إن كنتَ حبيب الله فهو يعفيك من المحاكمة قبل ان تقع عليك الدينونة. أعفي رئيس هذا البيت، الاب الياس من المحاكمة. ولذا يحق لنا ولحبنا أن نستشفعه على رجاء قيامته وقيامتنا والحياة الأبدية.

هذا المكان جدد الرهبانية عند الرجال. هو ورفقائه، من ارتحل منهم ومن استُبقي، قالوا، تساءلوا: ما الرهبانية في العمق، في التعريف اللاهوتي الصميمي؟ هي أن يشدَّ الإنسان نفسَه الى الحياة الأبدية وكأن هذه الدنيا في أطايبها ولذائذها غير موجودة. نحن منذ الآن نتجنّد متكلين على الله، نتجنّد لكي يأخذ الله أبصارنا الى الملكوت منذ الآن… حاول هذا الأخ الطيب هذا الفكر وهذه الممارسة بتواضع، بانكفاء، بانسحاق، بمحبة لا توصف لإخوته ولنا جميعًا، بانحناء دائم أمام وجه الله، ولذلك كنّا نؤمّ هذا الدير لنتعلّم التواضع، لنتعلّم ان ليس أحدًا الا الله، وان نقول هذا لعظماء هذا الدهر، وان نغدو بسطاء مكتفين بالنعمة الإلهية والكلمة الإلهية. سيقول له الله بلا دينونة: جعلتك أمينًا على نخبة صغيرة من الرجال، من الرهبان، سأقيمك على الكثير. ادخل الى فرح ربّك حتى يؤمن الناس ان ليس سوى وجه الله في الكون، واننا اذا شددنا على هذا الوجه نكون مقلدين الارشمندريت الياس، ولو في حدود معينة. نكون مشتاقين الى الرؤية العظيمة لنموت على استقامة الرأي وعظمة التمجيد ممهدين هنا لدخولنا الى اورشليم السماوية. الا كان الله معكم جميعا وعزّى قلوبكم.

كلمة الإرشمندريت توما بيطار:

ويرتحلون الاحبة : بقلم قدس الاب المتوحد الارشمندريت توما “بيطار”

… ويرتحلون، الأحبَّةَ!

… ويرتحلون، الأحبَّةَ، مخلِّفين غصّة، في القلب، تلو الغصّة. حفنة الرّمل، في الكفّ، مهما أحكمتَ يدك إقفالاً عليها، تتراخى قبضتُك بقوّة الشّدّ وتنسلّ حُبيباتها إذ ينفرج، لديك، الإصبع عن الإصبع مرغَمًا، فإذا بك تلقاها تتناقص، بعد زمن أو زمنَين، إلى أن تَلقى راحتك صِفرًا ممّا كنت ضنينًا به وحسبت أنّ العمر مستحيل بلاه…

“قد قام ليس هو ههنا”. بين التّرجّي والوجْد، لا تبقى لك غير علامة قيامة، لفائف ومنديلاً، فترى وتؤمن أنّهم يقومون في مَن قام لكي لا يذوقوا الموت من بعد. القبور تفتّحت وقام كثير من أجساد القدّيسين الرّاقدين! تنظر غير المنظور في كيانك فتجتهد لتقبض على ما عاينته قبسًا في داخلك فما تقدر! محتوم عليك ههنا أن تبقى مشلوحًا على الرّجاء، تدفعك الأيّام دفعًا إلى فراغ الذّات. حسبك أن تقبل وأن تساهم، ولو قليلاً، في إفراغ نفسك، في ما لا تستسيغ ويوجعك ويتركك وحيدًا. فشلُ الصّليب يأتيك، أوّلاً، ثمّ بعد ذلك نصرة القيامة، حتّى ترضخ للتلاقي عن إرادة وأنت عارف، يقينًا، أنّه لا أحد، بعدُ، ميتًا في القبر!

سيرتك، على الأرض، لملمة جراح إلى أن يطالعك وجه الّذي شقّ السّماء ونزل (إش 64: 1)!

“لقد ذهبوا وهم يبكون إذ كانوا يُلقون بذارهم، لكنّهم سيرجعون فرحين، حاملين أغمارهم”! المرأة، متى وَلدت، تنسى أتعابها لأنّ حياة جديدة تكون قد شملتها لفائف النّور!

اليوم، الجمعة، الخامس من شباط، العام ألفان وأحد عشر. سرنا عبر الممرّ إلى حيث غرفة الأب الأرشمندريت الياس مرقص فوجدنا أطبّاء وممرِّضين يعدّونه ليُنزلوه إلى غرفة العناية الفائقة، مرّة أخرى. وَهَنُ جسده يزداد ورئتاه إلى تعب والتهاب متزايدَين. لم يعد البدن مطواعًا والنّفْس أسرى كما ليكتمل الإيمان تسليمًا إلى المنتهى. لا عودة بيِّنة إلى الوراء! ظلمة ما للّحم والدّم تتكثّف إلى أن ينبلج من الظّلمة نور بإذن الله!

لا ندري متى تأتي السّاعة الّتي يتوقّف فيها ما تُسلَّط عليه الآلات والأنابيب والأمصال والأدوية لكي لا يتوقّف. الصّراع قائم، الآن، بعنف، ب
ين جسد يرتحل وإرادات تبذل وسعها لكي لا يرتحل، أو لتؤجِّل رحيله، تعبيرًا عن تمسّك شرس به، حتّى لا يحسّ الأحبَّة أنّهم قصّروا في المحبّة في شيء!

كان صاحيًا والعربة تسير إلى حيث لا نعرف. في عينيه كان تسليم ودمعة وسُحنة على قتام تحكي بعض الاختناق. رغم ذلك بارَك مَن كانوا حوله وترك مَن رغب يلثم يمينه. ماذا يجري في وجدانه وهو إلى هناك! في كل أيّامه تروّض على التّسليم وعلّمنا التّسليم. حكاه في سيرته سنة بعد سنة ما يزيد على الخمسين ربيعًا. يصلّي؟ ماذا بقي له غير الصّلاة؟! الصّلاة مركبة إيليّا شفيعِه إلى فوق، وهي الآن تحتدّ نارًا ونورًا! كان يخشى هذه السّاعة، لكنّه لهذه السّاعة أتى! هو المعلّم خطّ معالم الطّريق لمَن حمل صليبه وسار وراءه. إيقونة أضحى في النّزول إلى الموت! روح الدّعابة الّتي كان إليها كالأظافر إلى اللّحم استكانت الآن! عرف بإحساسه الأبلغ من كلّ كلام أنّه يودّعهم ويودّعونه! وأُخرج كمصارع إلى الحلبة، حلبة التّسليم، بعد عمر من التّروّض على الجهاد. وابتعدت العربة ونحن ننظر، وفي القلب مهابة ورجاء. “في يدَيك أستودع روحي”!

كلّنا ساهم هو في إيلاده إلى الحياة الرّوحيّة! الآن يصير ما علّمنا، كلمة من الكلمة! “الكلام الّذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة”!

حَسِبنا أنّها آخر مرّة نراه قبل أن نصير إلى فوق لننظر وإيّاه وجه السّيّد والرّوحُ إلى الرّوح! لكنْ أرانا الرّبّ الإله أنّ ما له، في الأزمنة والأوقات، غير ما احتسبنا! انتعش الأب الياس من جديد! لِمَ؟! الرّبّ أدرى! لعلّه شاء بذلك تسليمًا أكمل!

وأُعيد إلى الغرفة العاديّة للمرضى. صوته كان أوضح! كان كأنّه استعاد شيئًا من الرّغبة في الحياة بيننا. لكنَّ حالته بانت غير مستقرّة. تشوّف إلى اليوم الّذي يعود فيه إلى ديره. لكنّهم، لوضعه الدّقيق، كانوا يؤخّرونه! كان أطبّاؤه يعرفون أنّ الخطر على حياته أكبر إن غادر إلى الدّير. أمّا هو فلمّا رأى الأيّام تكرّ وطال الانتظار أصرّ وتوسّل أن يصعدوه إلى هناك ولو ليوم واحد قبل أن يرتحل. تلك الأيّام، بين تحسّن حاله وصعوده إلى أورشليم الدّير، كانت كأنّها إعداد للتّسليم الكامل بين يدي مَن أحبّ، وتهيئةٌ للصّعود إلى أورشليم السّماويّة. أخيرًا، كمَن يعدو إلى مرتجى خطّ النّهاية، استنفد قواه ونفسه. البارحة عدناه في المستشفى قبل أن يخرج إلى ديره. لسانه صمت عن الكلام أو كاد. فقط عيناه كانتا تحكيان مَن يألف لغة العيون. كان فيهما صمت وتسليم. نظر الآتي من البعيد إليه وقد دنا منه. أحبّ مَن حوله فكان يغطّي رأسه وعينيه بيديه لكي لا يراه أحد يدمع لفراقه. باركنا وشدّ، وسعه، على رؤوسنا، وغادرناه. صعد إلى الدّير بعد ظهر الثّاني والعشرين من شباط 2011. وقبل ظهر الثّالث والعشرين، الأربعاء، رحل على شيء من ضيق ما بقي له من جسد، ولكنْ قرير العين أنّه بخلاف موسى، كليم الله، لم يُحرَم من الدّخول إلى أرض الميعاد، بل اقتحمها بشوقه! وبعدما كحّل عينيه بمرأى الجميع وبارك، لم يعد له ما ينتظر من أجله. “الآن أَطلق عبدك أيّها السّيّد”! وانطلق النّسر الّذي طالما سما بنا إلى أعلاء معرفة روح الله ثلاثة وخمسين عامًا!

تختنق الكلمة في صدورنا، يا أبانا، كما اختنقت المودّات الّتي شملتنا بها سنة بعد سنة، وكأنّها من الأزل وإلى الأبد، في عينيك اللّتَين لم يكن أيسر عليهما من أن يخاطبا بالدّمع في الوقفة والصّلاة أمام العليّ وفي معاناة الآخرين وآلامهم تُعرَض عليك! بتّ في نَفَسنا نسمةً عليلة تنعشنا! كنّا، أبدًا، نشعر بالطّمأنينة أنّك إلينا! لم تترك شيئًا إلاّ علّمتنا إيّاه! كنت، دائمًا، قلبًا ينعطف على كلّ قلب ويحتضن الصّغار والكبار! كلّ أنطاكية حملتها في اهتمامك صمتًا! لم تترك زاوية فيها حاجة إليك إلاّ تركت عرينك إليها لتبلسم جراح النّفوس الّتي عبثت بها صروف الدّهر! كنت سمّاعًا كبيرًا وكلمةً مقتضبة في آن! عوّدتنا، لا سيّما في سنيك الأخيرة، أن تقول الكثير بالقليل! وروح الدّعابة يتردّد في ما تقول وتفعل. هذه انسلّت في ثنايا معاناتك الدّاخليّة ودموعِك كما لتجعل أصول الحياة الرّوحيّة أيسرَ لقلوب وهنت واستهيبت ولوج المسير إلى فوق. اختلط فيك التّباله في المسيح بالفرح بالحزن بالمحبّة بالرّعاية! قلتها دائمًا مباشرة وبصورة غير مباشرة: مسيح الرّبّ أدنى إليكم وأيسر ممّا تتوقّعون! فقط اثبتوا على الرّجاء! آخر كلمة كبيرة تناهت إلينا وأنت على سرير المحطة الأخيرة: “اشكروا”! شعرتَ، يا أبانا، أنّ العليّ شاء إذلالك إلى المنتهى! كلاّ، بل إذلال ما فيك وفينا من تعلّق بالذّات حتّى نصير من الّذي سُمِّر على قصد الله وتواضعه الأقصى ولمّا يبق له من مكان يسند إليه رأسه هنا غير الصّليب وأنّةٍ صرخةٍ تنبعث من أعماق تائقة إلى الآب وما كانت إلاّ إليه: “في يديك أستودع روحي!”

صعبة قراءتك، يا أبانا الياس، لأنّك أرحب من أن يحيط أحد منّا بك وبما جال في عالم داخلك، وأصعب كتاباتك، لأنّ الكلمات المخطوطة ينقصها، أبدًا، نبض الحياة الّذي عهدناه فيك أطفالاً فشبّانًا صغارًا فرجالاً!

أَوَ ترتحل الآن وتتركنا؟! لا بل تأخذنا في صدرك إليه وتطالعه حاملاً إيّانا لديه! ذهبت؟ الله معك! عبور مبارَك! فردوس مبارَك! صلِّ لنا! ابقَ معنا! الآن أنت إلينا أبقى! اليوم فرح كبير لأنّها القيامة، قيامةُ السّيّد، تأتينا من خلالك! لكنّها تأتينا في عينيك الكبير
تَين الدّامعتَين! ما عرفنا القيامة إلاّ مصلوبة وما عرفنا الأحبَّة إلاّ تسحّ منهم الأعراق وجنباتهم تقطر دمًا وماء كما إلى السّيّد!

الله معك! لا تغادرنا! إلى الملتقى يا عين الأحبَّة! سلام عليك وعلى مَن غادرنا قبلك!

الأرشمندريت توما (بيطار(

رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

أضف تعليق